التضاد ...وسر الرقم (2)
ان الايقاع الثنائي لم يرتبط بزمان ومكان محددين ...وبتجربة فكرية واحدة ..اذ تتردد اصداؤه في كل منظومة اشأها الفكر الانساني ..ميثولوجية ...او فلسفية او علمية بحتة ...كما تتغلل تلك الاصداء عميقا في الابداعات الفنية ...ولعل ذلك يكمن في ان ذلك الايقاع ينبثق من الوجود الواقعي والبناء المنطقي للفكر ...
سر الرقم (2)
وبداية لا يمكن للمتأمل المتعمق الا ان يلمس ان كل ما هو كائن يوجد في علاقة ثنائية بين ذاته والوجود الواقع خارجه ...فإذا حاولنا النفاذ الى دقائق المادة التي بني منها الكون ...نرى ان وجود الذرة كبنية ...انما يقوم على التجاذب الثنائي بين الجسيمات ذات الشحنات المتضادة ...وما دوران الالكترونات حول نواة الذرة سوى تجسيد لفاعلية طبيعة تنزع الى التوازن الثنائي في بذرة الوجود ...وتعبير عن العلاقة الثنائية بين الجسيم والوجود من حوله ...ولعل ولادة الوعي لدى الانسان انما تبدأ من اللحظة الاولى التي ادرك فيها هذا الانسان ثنائية الضدين : ( الانا ) و ( اللا أنا ) وعند تلك الطفرة العظيمة اخذ الايقاع الثنائي في دينامية الكون يقتحم مدى الرؤية امام الانسان ...فهو يفتح عينيه على ثنائية النور والظلمة ....وينمو بين ثنائية الاب والام ...وتنفتح لديه غريزة الحب في ثنائية الذكر والانثى ...ويغادر الوجود على ايقاع ثنائية الحياة والموت ...
بقد رأى الفيثاغورثيون ...وقد جعلوا من الاعداد مبادئ الوجود ...رأوا في الرقم ( 2) مبدأ التناقض والتضاد في الطبيعة ..واضعين بذلك يدهم على سر الدلالات لبغنية لذلك الرقم العجيب ...
وقد لا يظهر التناقض على السطح دوما ...فالاشياء تتجاور وتتآلف ...لكن ذلك التناقض يأخذ بالتكشف اكثر فأكثر كلما دخلنا في عمق علاقات الوجود ...وكلما اخذنا بتلمس المفاهيم والمقولات الرئيسية لذلك الوجود ........
ان مفهوم الوجود ذاته ...يفرض في تأمله نقيضه المباشر ...وهو العدم ..وكذا شان المقولات الاخرى كالجوهر والعرض ...والكيف والكم ...والحرية والضرورة ....وهل ثمة معنى للنور دون الظلمة ...وللفرح دون الحزن ....وللمعنى دون المبنى ؟؟....
وحتى في النشاط الذهني البحت ...يولّد المفهوم نقيضه ...فدارسوا نظرية المجموعات والبنى في الرياضيات البحتة يعلمون ان مفهوم المجموعة ...وهو مفهوم اساس في الرياضيات الحديثة ...يفرض نقيضه ....مفهوم المجموعة المتممة ...كما يفرض مفهوم ( الحدث ) في علم الاحتمال مفهوم الحدث المضاد ...
واذ نتلمس الجهات والنسب وما شاكلها ...نرى انفسنا ملزمين بالتعامل مع الاضداد : فاليمين يقابل بالشمال ...والاعلى بالاسفل ...والـ(قبل ) بـ ( بعد ) ...فاذا اخترقنا الصور العيانية الى اعماق عالم الصغائر ...فاننا نقف على حقيقة رائعة ثنائية الايقاع ...فلقد اثبت العالم في هذا القرن او وجود ادق الجسيمات التي تكّون المادة ...انما يقوم على التضاد ...فلكل ( ليبتون ) ليبتون مضاد ...ولكل ( كوارك ) كوارك مضاد ...وكذلك شأن الجسيمات المركبة كالبروتونات والنيوترونات ....
واصبح مفهوم المادة المضادة الذي كان حدسا مجردا قبل حين ...يمتلك وجودا واقعيا ولئن كان المفهوم يولد نقيضه ...فلا يعني ذلك انه يسبقه زمنيا او وجوديا بالضرورة ...وانما يسبقه منطقيا او في التصور الذنيفالموضوعة وطباقها ليسا حدين مستقلين متناقضين فحسب ...فهما وحدة لا تنفصم كثنائية( رياضية ) واحدة ذات مسقطين ....وكصيرورة بالمعنى الفلسفي ...تحكمها قوانين الحركة الشاملة في الطبيعة والفكر ...